الجمعة، 6 مايو 2011

الإنسان

مررت بجوار حديقة عامة يبدو كأن الفقر قد زرع فيها أشجاره الذابلة وسط ما تبقى من حشائشها الصفراء التي تبدو كجنود الشيطان الزاحفة على جثث الجمال والذوق فبدت الحديقة كامرأة عجوز ينسحب الجمال من وجهها وإن تركت أصابعه بعض بصماتها القليلة على صاحبة الوجه
وفي إحدى جوانب الحديقة لمحت تلك الأسرة التي نالها حظها من الفقر الذي نال الحديقة من حولها
جلس الأب بجانب الأم وبجانبهما ابنتهما التي لم تقطف سوى زهرتين من أزهار عمرها .... ربما لم يجد الرجل ما يضيف به حلاوة إلى فم ابنته لضيق اليد فاكتفى أن يزرع حلوى قبلة على وجنتيها واكتفت الأم بأن تربت على كتفه المتهدل من التعب بنظرة رضا تعلن تقديرها لجهوده  المضنية في أن يقيم بالكاد صلب هذه الأسرة في عالم يغرز أنيابه في قلب الجميع
ملأت ضحكاتهم الأجواء وفجأة تحرك الأب من مكانه وانحنى ليرتكز على أطرافه الأربعة ثم تعاونه الأم في وضع ابنته على ظهره ونشبت الابنة يديها الصغيرتين في كتف أبيها بقوة لا تتناسب ورقتها وكأنها تستمد منه الأمان حيث تتمسك بجذع شجرة قوي وسط تيار شديد قد يجرفها إلى شلال سحيق الهوة
بدأ الأب يسير بها على أطرافه الأربعة والابنة تنشر ضحكاتها وكأنها تعيد للحديقة معناها
توقف سيل أنهار أفكاري أمام هذا المشهد البديع فما عدت أفكر في كيفية التغلب في الصراع الفكري على السلفية وما عدت أعبأ بأخطار الثورة المضادة وما عدت مهتما بالقضايا الفكرية الكبرى وإنما وقفت أنهل من تلك البراءة لأروي قلبي الذي هده الظمأ لشربة براءة واحدة لا أظمأ بعدها أبدا في صحراء الكذب والنفاق والصراع التي نعيش فيها
تلك الصحراء القاحلة التي كانت في الماضي واحة وارفة الظلال والتي بأيدينا أخذنا نسقي زروعها المقدسة بسموم الصراع والنفاق والتي ثارت عليها عواصف الحقد وأعاصير التعصب وفيضانات التنطع والجمود لتترك الواحة صحراء تشتاق إلى هذه البراءة
وهنا أدركت الحقيقة التي لم أجدها عند شيوخ الجمود والظلام ولا عند فلاسفة الفكر المتهاوي ولا أدباء التحذلق
وهتفت
وجدتها ... وجدتها
ألهمتني تلك الطفلة الفيلسوفة وألهمني ذلك الأب التقي النقي وألهمتني تلك الأم المفكرة السامية وعلمت أن الصراع  يجب أن ينحصر بين الخير والشر وعلمت أن مهمتي الأولى هي أن أسعى جاهدا كي أزرع الحب فهو العصا السحرية التي أحالت هذه الحديقة العجوز إلى جنة فيها ما لا رأت عيوني وما لا سمعت آذاني وما لم يخطر على قلبي
أيها البشر حان الوقت كي نرى الخير واقعا حان الوقت كي نعرف أننا ما جئنا في هذه الدنيا وما حملنا راية الاستخلاف فيها إلا كي نخلق كون الحب والخير فهل نكف عن الإفساد وسفك الدماء ونشر الكراهية
هل حان الوقت كي نعرف معنى تلك الكلمة التي ظلمناها بالانتساب إليها
كلمة الإنسان
هيا كي نستحق لقب ..... إنسان

ليست هناك تعليقات: